فصل: من فوائد أبي حيان في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}.
الإشارة منها أن من بقي عن الحقوق بالبقاء في أوطان الحظوظ خسرت صفقتهم، وما ربحت تجارتهم. والذي رضي بالدنيا عن العقبى لفي خسران ظاهر.
ومن آثر الدنيا أو العقبى على الحق تعالى لأشد خسرانا.
وإذا كان المصاب بفوات النعيم مغبونا فالذي مُنِيَ بالبعاد عن المناجاة وانحاز بقلبه عن مولاه، وبقي في أسْرِ الشهوات، لا إلى قلبه رسول، ولا لروحه وصول، ولا معه مناجاة، ولا عليه إقبال، ولا في سرّه شهود- فهذا هو الْمُصَابُ والْمُمْتَحَن.
وإن من فاته وقت فقد فاته ربه، فالأوقات لا خَلَفَ عنها ولا بَدَلَ منها، ولقد قال بعضهم:
كنتَ السوادَ لمقلتي ** فبكى عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت ** فعليك كنت أحاذر

.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}.
في نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في جميع الكفار، قاله ابن مسعود، وابن عباس.
والثاني: أنها في أهل الكتاب، قاله قتادة والسدي ومقاتل.
والثالث: أنها في المنافقين، قاله مجاهد.
واشتروا: بمعنى استبدلوا، والعرب تجعل من آثر شيئًا على شيء مشتريًا له، وبائعًا للآخر، والضلالة والضلال بمعنى واحد.
وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد هاهنا الكفر، والمراد بالهدى: الإيمان، روي عن الحسن وقتادة والسدي.
والثاني: أنها الشك، والهدى: اليقين.
والثالث: أنها الجهل، والهدى: العلم.
وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم آمنوا ثم كفروا، قاله مجاهد.
والثاني: أن اليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه، فلما بعث كفروا به، قاله مقاتل.
والثالث: أن الكفار لما بلغهم ما جاء به النبي من الهدى فردوه واختاروا الضلال، كانوا كمن أبدل شيئا بشيء، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله.
قوله تعالى: {فما رَبحَتْ تِجارَتُهم}.
من مجاز الكلام، لأن التجارة لا تربح، وإنما يربح فيها، ومثله قوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار} [سبأ: 33] يريد: بل مكرهم في الليل والنهار.
ومثله {فإذا عزم الأمر} [محمد: 21] أي: عزم عليه.
وأنشدوا:
حارثُ قد فرَّجْتَ عني همي ** فنام ليلي وتجلى غمّي

والليل لا ينام، بل ينام فيه، وإِنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإِشكال، ويعلم مقصود قائله، فأما إذا أضيف إلى ما يصلح أن يوصف به، وأريد به ما سواه، لم يجز، مثل أن تقول: ربح عبدك، وتريد: ربحت في عبدك.
وإلى هذا المعنى ذهب الفراء وابن قتيبة والزجاج.
قوله تعالى: {ومَا كانوا مُهتَدين}.
فيه خمسة أقوال:
أحدها: وما كانوا في العلم بالله مهتدين.
والثاني: وما كانوا مهتدين من الضلالة.
والثالث: وما كانوا مهتدين إلى تجارة المؤمنين.
والرابع: وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة.
والخامس: أنه قد لا يربح التاجر، ويكون على هدىً من تجارته، غير مستحق للذم فيما اعتمده، فنفى الله عز وجل عنهم الأمرين، مبالغة في ذمهم. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}.
الإشارة بلفظ البعيد إلى القريب للبعد من جهة المعنى.
وفسر ابن عطية الشراء بأوجه متقاربة، إنها عبارات مختلفة فالأولان في كلامه راجعان لنفس المعنى، والأخيران لكيفية صدق اللّفظ على ذلك المعنى.
قال ابن عرفة: وأدخل الذين للحصر.
قال أبو حيان: ودخول الفاء في خبر الموصول لا يجوز إلا إذا كان الموصول عاما.
ويشترط أن يكون فيه معنى التعليل للخبر وعادتهم يردون عليه بقوله تعالى: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} لأنه ليس بعام ولا هو علة في الخبر، إذ ليس الخلق علة في الهداية وإلا لزم عليه مذهب المعتزلة.
قال: وهنا سؤال وهو لِمَ أثبت الضلالة دون الهدى والمناسب العكس أو كان يقال اشتروا الضلال بالهدى فهو أبلغ في الذّمّ لاقتضائه أنهم اشتروا الضلال الكثير بخلاف الضلالة الواحدة فإنها لا تفيد ذلك الذم؟
قال: والجواب بوجهين:
أحدهما: أنهم إذا ذمّوا على أخذ الواحدة من الضلال فأحرى أن يذموا على كثيره.
الثاني: أن هذا أشنع من حيث إنهم بدّلوا الهدى الكثير الشريف فأخذوا عوضه الشيء القليل من مقداره الحقير في ذاته.
فإن قلت: الهدى الذين اشتروا الضلالة به لم يكن لهم بوجه؟ قلنا: إمّا أنه يعد حاصلا لأجل تمكنهم منه أو هو حاصل بالفعل لحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» أو المراد المنافقون وقد حصل لهم الهدى بالنطق اللّساني فخالفوا بالفكر الاعتقادي وبكفرهم بلسانهم عند خلوّهم مع شياطينهم.
قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ}.
فإن قلت: هلا قيل: فخسرت تجارتهم، فهو أصرح لأن عدم الربح لا يستلزم الخسران؟
قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنّهم إذا ذمّوا على عدم الربح فأحرى أن يذموا على الخسران.
قوله تعالى: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}.

.قال ابن عطية:

قيل: معناه في شرائهم هذا، وقيل معناه على الإطلاق، وقيل: في سابق علم الله.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا أن الصواب غير هذا كلّه وهو أن الخسارة في التجارة تارة تكون لأجل حوالة الأسواق برخص أو لأجل الجهل بمحاولة البيع والشراء أو لأجل الفساد وتبذير المال بإنفاقه في غير مصلحة أو فيما لا يحل، فلما أخبر عن هؤلاء بالخسارة في تجارتهم بقي أن يتوهم أنهم من القسم الأول الذين لهم عذر في الخسارة لأن ذلك أمر جبري ليس من قبلهم ولا لهم فيه اختيار بوجه فاحترز عن ذلك بقوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} حتى يتيقن أنهم من قسم من كانت خسارته في التجارة من قبل نفسه وسبب فساده وقبح تصرفه وهذا أصوب من قول الزمخشري: إذ المراد بذلك إضاعتهم رأس المال ونظره ابن عطية بمنع مالك الاشتراء على أن يتخير المبتاع فيما تختلف آحاده ويمتنع التفاضل فيه.
ابن عرفة: الخيار والاختيار في آخر كتاب الخيار منع فيها أن يشتري الرجل عدد شجرة شجرة مثمرة يختاره اتّفق الجنس أو اختلف، وتدخله المفاضلة في الجنس الواحد وبيع الطعام قبل قبضه إن كان على الكيل، لأن من خير بين شيئين يعد متنقلا فيدع هذه وقد ملك اختيارها أو يأخذ هذه وبينهما فضل في الكيل، وكذلك منعه في الجنس الواحد المختلف الثمن من غير الطعام للفرد فإن اتفقت حاده أو استوت قيمته جاز الاختيار وإن اختلف منع. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أولئك} اسم أشير به إلى الذين تقدم ذكرهم، الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الإصلاح، وهم المفسدون، ونسبة السّفه للمؤمنين، وهم السفهاء، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة وهم مع الكفار.
وقرأ الجمهور: اشتروا الضلالة، بضم الواو.
وقرأ أبو السماك قعنب العدوي: اشتروا الضلالة بالفتح.
ولاعتلال ضمة الواو وجوه أربعة مذكورة في النحو، ووجه الكسر أنه الأصل في التقاء الساكنين، نحو: {وأن لو استقاموا} ووجه الفتح اتباعها لحركة الفتح قبلها.
وأمال حمزة والكسائي الهدي، وهي لغة بني تميم، والباقون بالفتح، وهي لغة قريش.
والاشتراء هنا مجاز كنى به عن الاختيار، لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر، فكأنه قال: اختاروا الضلالة على الهدى، وجعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشتري، وإنما ذهب في الاشتراء إلى المجاز لعدم المعاوضة، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في يد غيرك، وهذا مفقود هنا.
وقد ذهب قوم إلى أن الاشتراء هنا حقيقة لا مجاز، والمعاوضة متحققة، ثم راموا يقررون ذلك، ولا يمكن أن يتقرر لأنه على كل تقدير يؤول الشراء فيه إلى المجاز، قالوا: إن كان أراد بالآية المنافقين، كما قال مجاهد، فقد كان لهم هدى ظاهر من التلفظ بالشهادة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والغزو، والقتال.
فلما لم تصدق بواطنهم ظواهرهم واختاروا الكفر، استبدلوا بالهدى الضلال، فتحققت المعاوضة، وحصل البيع والشراء حقيقة، وكان من بيوع المعاطاة التي لا تفتقر إلى اللفظ، وقالوا: لما ولدوا على الفطرة واستمر لهم حكمها إلى البلوغ وجد التكليف، استبدلوا عنها بالكفر والنفاق فتحققت المعاوضة، وقالوا: لما كانوا ذوي عقول متمكنين من النظر الصحيح المؤدي إلى معرفة الصواب من الخطأ، استبدلوا بهذا الاستعداد النفيس اتباع الهوى والتقليد للآباء، مع قيام الدليل الواضح، فتحققت المعاوضة.
قالوا: وإن كان أراد بالآية أهل الكتاب، كما قال قتادة، فقد كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، ومصدقين ببعث النبي صلى الله عليه وسلم، ومستفتحين به، ويدعون بحرمته، ويهددون الكفار بخروجه، فكانوا مؤمنين حقًا.
فلما بعث صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة، خافوا على رئاستهم ومآكلهم وانصراف الاتباع عنهم، فجحدوا نبوته وقالوا: ليس هذا المذكور عندنا، وغيروا صفته، واستبدلوا بذلك الإيمان الكفر الذي حصل لهم، فتحققت المعاوضة.
قالوا: وإن كان أراد سائر الكفار، كما قاله ابن مسعود، وابن عباس، فالمعاوضة أيضًا متحققة، إما بالمدة التي كانوا عليها على الفطرة ثم كفروا، أو لأن الكفار كان في محصولهم المدارك الثلاثة: الحسي والنظري والسمعي، وهذه التي تفيد العلم القطعي، فاستبدلوا بها الجري على سنن الآباء في الكفر.
وقال ابن كيسان: خلقهم لطاعته، فاستبدلوا عن هذه الخلقة المرضية كفرهم وضعف قوله، لأنه تعالى لو برأهم لطاعته، لما كفر أحد منهم لاستحالة أن يخلق شيئًا لشيء ويتخلف عن ذلك الشيء.
وسيأتي الكلام على قوله تعالى: {إلا ليعبدون} وعلى ولذلك خلقهم إن شاء الله.
قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي: الضلالة: الكفر، والهدى: الإيمان، وقبل الشك واليقين، وقيل الجهل والعلم، وقيل الفرقة والجماعة، وقيل الدنيا والآخرة، وقيل النار والجنة.
وعطف: فما ربحت، بالفاء، يدل على تعقب نفي الربح للشراء، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح.
وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله: {فما ربحت تجارتهم} دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء والتقديران اشتروا.
والذين إذا كان في صلة فعل، كان في معنى الشرط، ومثله {الذين ينفقون أموالهم} وقع الجواب بالفاء في قوله: {فلهم أجرهم} وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم. انتهى.
وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ، فتدخل الفاء في خبره، كما تدخل في جواب الشرط.
وأما الذين خبر عن أولئك، وقوله: {فما ربحت} ليس بخبر، فتدخله الفاء، وإنما هي جملة فعليه معطوفة على صلة الذين، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله: {فلهم أجرهم} خطأ، لأنه ليس بجواب، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين اشتروا مبتدأ، وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبرًا لأولئك.
ولتحقق مضي الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية، معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين بدل منه، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول، ولإبدال الذين من أولئك، صار الذين مخصوصًا لأنه بدل من مخصوص، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبرًا عنه.
ونسبة الريح إلى التجارة من باب المجاز لأن الذي يربح أو يخسر إنما هو التاجر لا التجارة، ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمنًا، رشح هذا المجاز البديع بقوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} وهذا من باب ترشيح المجاز، وهو أن يبرز المجاز في صورة الحقيقة، ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة، فينضاف مجازًا إلى مجاز، ومن ذلك قول الشاعر:
بكى الخز من روح وأنكر جلده ** وعجت عجيجًا من جذام المطارف

أقام الخز مقام شخص حين باشر روحًا بكى من عدم ملامته، ثم رشحه بقوله: وأنكر جلده، ثم زاد في ترشيح المجاز بقوله: وعجب، أي وصاحت مطارف الخز من قبيل روح هذا، وهي: جذام.
ومعنى البيت: أن روحًا وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارفه، لأنهم لا عادة لهم بذلك، فكنى عن التباين بينهما بما كنى فيه في البيت، ومن ذلك قول الشافعي، رضي الله عنه:
أيا بومة قد عششت فوق هامتي ** على الرغم مني حين طار غرابها

لما كنى عن الشيب بالبومة فأقبل عليها وناداها، رشح هذا المجاز بقوله: قد عششت، لأن الطائر من أفعاله اتخاذ العشة، وقد أورد الزمخشري في ترشيح المجاز في كشافه مثلًا.
وقرأ ابن أبي عبلة: تجاراتهم، على الجمع، ووجهه أن لكل واحد تجارة، ووجه قراءة الجمهور على الأفراد أنه اكتفى به عن الجمع لفهم المعنى، وفي قوله: {فما ربحت تجارتهم} إشعار بأن رأس المال لم يذهب بالكلية، لأنه إنما نفى الربح، ونفي الربح لا يدل على انتقاص رأس المال.
وأجيب عن هذا بأنه اكتفى بذكر عدم الربح عن ذكر ذهاب المال، لما في الكلام من الدلالة على ذلك، لأن الضلال نقيض الهدى، والنقيضان لا يجتمعان، فاستبدالهم الضلالة بالهدى دل على ذهاب الهدى بالكلية، ويتخرج عندي على أن يكون من باب قوله:
على لاحب لا يهتدي بمناره

أي لا منار له فيهتدي به، فنفى الهداية، وهو يريد نفي المنار، ويلزم من نفي المنار نفي الهداية به، فكذلك هذه الآية لما ذكر شراء شيء بشيء، توهم أن هذا الذي فعلوه هو من باب التجارة، إذ التجارة ليس نفس الاشتراء فقط، وليس بتاجر، إنما التجارة: التصرف في المال لتحصيل النموّ والزيادة فنفى الربح.
والمقصود نفي التجارة أي لا يتوهم أن هذا الشراء الذي وقع هو تجارة فليس بتجارة وإذا لم يكن تجارة انتفى الربح فكأنه قال: فلا تجارة لهم ولا ربح.
وقال الزمخشري معناه: إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان: سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معًا، لأن رأس المال مالهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأعراض الدنيوية، لأن الضلال خاسر دامر، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح. انتهى كلامه.
ومع ذلك ليس بمخلص في الجواب لأن نفي الربح عن التجارة لا يدل على ذهاب كل المال، ولا على الخسران فيه، لأن الربح هو الفضل على رأس المال، فإذا نفى الفضل لم يدل على ذهاب رأس المال بالكلية، ولا على الانتقاص منه، وهو الخسران.
قيل: لما لم يكن قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} مفيدًا لذهاب رؤوس أموالهم، أتبعه بقوله: {وما كانوا مهتدين} فكمل المعنى بذلك، وتم به المقصود، وهذا النوع من البيان يقال له: التتميم، ومنه قول امرئ القيس:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ** وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب

تمم المعنى بقوله: الذي لم يثقب، وكمل الوصف وسمى الله تعالى اعتياضهم الضلالة عن الهدى تجارة، وإن كانت التجارة هي البيع والشراء المتحقق منه الفائدة، أو المترجى ذلك منه.
وهذا الاعتياض منفي عنه ذلك، لأن الكفر محبط للأعمال.
قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا} الآية وفي الحديث، أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ابن جدعان: وهو ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين؟ فقال: «لا إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا لما تحققوا وارتجوا من الفوائد الدنيوية والأخروية.
ألا ترى إلى قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه} وقولهم: {وما نحن بمعذبين} وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أيامًا معدودة، وبعضهم يقول يومًا واحدًا، وبعضهم عشرًا، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل.
فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة، ونفى الله تعالى عنهم كونهم مهتدين.
وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين، أو مهتدين من الضلالة، أو للتجارة الرابحة، أو في اشتراء الضلالة، أو نفي عنهم الهداية والربح، لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى، وعلى استقامة، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية.
والذي أختاره أن قوله تعالى: {وما كانوا مهتدين} إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله: {بالهدى} أنهم كانوا على هدى فيما مضى، فبين قوله: {وما كانوا مهتدين} مجاز قوله: {بالهدى} ودل على أن الذي اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى، فالمثبت في الاعتياض غير المنفى أخيرًا، لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل.
وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان، فهو منصوب بها وحدها خلافًا لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معًا، وخلافًا لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال، وهو الفراء، قال: لشغل الاسم برفع كان، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالًا خبرًا فأتى معرفة، فقيل: كان أخوك زيدًا تغليبًا للخير، لا للحال. اهـ.